أيها السوريون القوميون،
ما كاد الـحزب السوري القومي يصبح كائناً حياً ويستكمل شروط كيانه حتى تعرض لـما تتعرض له كل الكائنات الـحية من اختبارات طبيعية وتـجارب نفسية روحية. وهي اختبارات وتـجارب ضرورية لـمعرفة مواهب هذا الكائن الـحي الـجديد وخصائصه، وللتثبت من بنيته هل هي قوية تصلح للبقاء أم ضعيفة تتفكك لأول صدمة، ومن روحيته هل هي سليمة أم فاسدة لا تـحقق شيئاً، ومن عقيدته هل هي صحيحة تعبّر عن فهم صحيح لـحاجة أمة حية أم مخطئة لا تعبّر إلا عن أوهام شخصية؟ وبعد هذه الاختبارات العنيفة وهذه التجارب الدامية التي لا تزال أنغام أغلالها وأصفادها ترن في آذاننا إلى اليوم، وستظل ترن في آذان أجيالنا الآتية ليفهم الأحفاد قيمة حياة الأمة ومصالـحها وما كلفت من حياتنا نحن الذين نصبح إذ ذاك جدوداً، بعد جميع هذه الاختبارات والتجارب يحسن بنا أن نقف في هذه الـمرحلة الأولى لنلقي نظرة على ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ونعيّن بالضبط مركزنا بالنسبة لهدفنا ولـما حولنا.
إنّ الاختبارات والتجارب التي مرت بالـحزب السوري القومي، وهو بعد في مهده، كانت اختبارات وتـجارب عظيمة فاقت بقسوتها كل الاختبارات والتجارب التي مرت بالكائنات الـحية الشبيهة بالـحزب السوري القومي. وما خروج الـحزب السوري القومي سليماً من هذه الاختبارات العظيمة والتجارب الشديدة سوى الدليل القاطع على قوّته التي لا تُغلب، وعلى جدارته بالبقاء وعلى تفوّقه في النزاع العنيف بينه وبين القوات العاملة على قتل الأمة في سبيل حياتها هي.
لم تتعرض أمة لـحوادث تاريخية عظيمة ذات تأثير طويل على تاريخها وحياتها كالـحوادث التاريخية الـجليلة التي ألـمّت بأمتنا العظيمة، وأبقتها تـحت تأثيرها الطويل. فما كادت سورية تعود إلى إثبات شخصيتها ومزاياها على عهد الإمبراطورية الرومانية حتى جاءها الفتح العربي الذي اقتضى تغيير لغتها، ثم جاء فتح الـمغول الذي نكب البلاد وهدم دمشق، ثم عقبه الفتح التركي القاهر، وهذه الـحوادث الـمتعاقبة التي تكوّن الـحروب الصليبية فصلاً هاماً من فصولها، قطعت الـمجرى الثقافي الذي كان سائراً وجعلت مصير الأمة معلقاً على تفاعل هذه العوامل وتـجاذبها السيادة، وأوجدت حالة سادت فيها الفوضى الاجتماعية والاقتصادية، فاضطرب سير العمران في هذه البلاد الـجميلة التي التقت فيها الـجحافل الـمتطاحنة الزاحفة من الـجنوب ومن الشمال ومن الغرب، في طور من أطوار التاريخ الكثيرة الـحوادث الـخطيرة، وتضعضعت العقلية تـحت ضربات الـحروب والفتوحات فضاعت الـمعنويات السورية، التي قامت بالثورات العمرانية والثقافية الكبرى، وزرعت الـمدن البحرية في جهات الـمتوسط وحملت إلى جميع شواطئه فنون الـحضارة السورية، وأمدّت الإغريق بالأساطير الفلسفية والفلسفات، ووضعت أسس التمدن الـحديث، وانحدرت الأمة في مهاوي الـخمول قروناً متطاولة.
كان من وراء هذه الأطوار القاسية التي مرت بالأمة أنّ الفضائل الكبرى التي امتازت بها أمتنا وانبثق منها فجر التمدن غارت تـحت أطباق الـخراب والانحلال القومي، وحلّت محلها خصال غير جديرة بإنهاض الأمة من كبوتها. وتبع ضياع الـمعنويات ضياع الشخصية القومية ومصالـحها الكبرى. وأدى التضعضع الاجتماعي إلى التضعضع الاقتصادي الذي ترك نتائج سيئة لا نزال اليوم تـحت وطأتها.
كان التضعضع القومي عاماً وكاد يقضي على شخصية الأمة قضاءً مبرماً فلم يبقَ لها سوى بعض الـمؤسسات كالـمراجع الدينية والـمعابد والسلطة الإقطاعية ونظام العشيرة أو رابطة العائلة الدموية. ثم آذنت السلطنة العثمانية بالتفكك والانحلال وأخذت عوامل الشخصية السورية تختلج اختلاجات الـحياة وتتململ، ووجدت في تضارب مصالح الدول الكبرى ومصالح الدولة العثمانية فرصة تساعدها على التملص من قبضة تركية. ولكن الـمعنويات كانت لا تزال صرعى، وظلمة الـخمول مخيمة على الشعب. فعاد الأمر إلى الـمؤسسات القديـمة وبعض الأفراد الذين بنوا نظرياتهم على تلك الـمؤسسات واستمدوا فلسفتهم السياسية منها. فكانت النتيجة تخبطاً اختلطت فيه السياسة بالدين والاجتماع بالسياسة. أما الاقتصاد فلم يكن له أثر.
إنّ الشعور الأول الذي تـحكّم في عقلية اختلاجات الـحياة السورية الأولى كان: «وجوب التحرر من ربقة تركية كيفما كان الأمر». لم يكن هنالك فكرة واضحة لتأسيس الـحياة القومية ومصالح الشعب السوري، ولذلك اختلطت شؤون كثيرة سياسية واقتصادية ودينية وتداخلت بعضها ببعض وأصبحت التعابير كلها مترادفة، وكلها تعني التخلص من تركية. ولـمّا كانت تركية تتسلط على أقطار عربية غير سورية ساعد وجود هذا العامل الـمشترك على دمج الـمسائل القومية بالـمسائل اللاقومية والدينية، وتولدت فكرة إجماع أمـم العالم العربي الـمخضعة لتركية على القيام بحركة تـحريرية مشتركة، كانت الدول الكبرى تنظر إليها بارتياح، وعرفت هذه الفكرة، تـحت عوامل أكثرها ديني، بـ «القضية العربية» التي اشترك فيها العاملون السياسيون من سورية ومصر والعراق وامتدت إلى بلاد العرب لتجد قوة دينية تتمركز فيها، لأن العاملين كانوا يجدون القوة الدينية، قوة السلالة النبوية والتعصب الديني، القوة الوحيدة الـجديرة بإنـجاح القضية. وبعض هؤلاء العاملين كانوا يعملون سراً للحصول على تأييد دولة كبيرة ومنهم من كان يسعى للحصول على حماية مثل هذه الدولة بعد التحرر من تركية.
في جميع ما كتب باللغتين العربية والتركية نـجد «القضية العربية» حركة يقوم بها بعض الـمفكرين السوريين السياسيين، ومن اشترك معهم من أمـم العالم العربي بقصد التحرر من السيطرة التركية. وفي الـحقيقة أنّ هذا التعبير لم يكن له معنى غير التعبير عن طلب الـحرية الذي يشترك فيه عدد من أمـم العالم العربي. ولكن انطلاق هذا التعبير في مجموع الأمة السورية، وهو لذلك العهد مجموع مضعضع الـمعنويات مختلطة عليه الـمذاهب السياسية والدينية والقومية والوطنية، فسح الـمجال لإيجاد أغراض متعددة لتعبير «القضية العربية» فكان هناك مَنْ تخيّل «القضية العربية» حركة رجعية لإنشاء إمبراطوريـة عربية وإعادة عهد هارون الرشيد السيِّىء من الوجهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومن الناس من حسب القضية العربية رجعة إلى النظرة الدينية وشؤون الـخلافة والإمامة. ومنهم من قام يبني من هذه القضية قضية نَسَبيّة ورابطة دموية، ويجعل منها مسألة «صلة أرحام «. ومنهم من ذهب فيها مذهب القومية فعدّها قضية قومية تلغي أمـم العالم العربي وتـجعل العالم العربي كله بـمقام أمة واحدة. ومنهم من عدَّ «القضية العربية « قضية حلف فأعاد إليها أقرب الأشكال إلى صفتها الأساسية.
يظهر مـما تقدم أنّ الـحركة التحريرية التي نشأت في سورية وأقطار عربية أخرى تـحولت، تـحت تأثير عوامل عديدة أهمها العوامل الدينية، إلى نوع من الفوضى في النظريات السياسية. وليس أدلّ على هذه الفوضى من التعابير الكثيرة الـمختلفة التي وصفت بها هذه الـحركة التحريرية ومن محاولة تـحويل هذه الـحركة إلى قضية اختلط فيها الدين بالسياسة والاجتماع والاقتصاد والـحقوق. ويبدو هذا الاختلاط جلياً في «أدب» هذه القضية غير الـمعيّنة وغير الـموضوعة على بساط البحث الآن. فالذين يتكلمون عن «القضية العربية» ويريدون بها قضية قومية كثيراً ما يتحدثون عن الأقطار العربية والأمـم العربية، ثم يعودون فيتكلمون عن القومية العربية خالطين بين القومية التي هي شعور كل أمة بنفسها وليست مشتركة بين عدد من الأمـم، وبين عصبية دينية أو عرقية أو لغوية.
ظـل أمـر هذه القضيـة فوضى إلى أن جاء الـحزب السوري القومي بنظريته الـجديدة العملية، وأوجد قضية «إنشاء جبهة عربية» من أمـم العالم العربي التي ترى في إيجاد هذه الـجبهة مصلحة سياسية أو اقتصادية لها، فألزم الأشكال معانيها وفرّق بين القضيـة القومية والقضايا السياسية وأحلَّ هذه القضية الـمعيّنة، العملية محل لفظة «القضية العربية» الـمبهمة الـمطاطة. فإنشاء جبهة عربية هي دعوة الـحزب السوري القومي إلى أمـم العالم العربي، التي يهمّها الأمر، لتأليف جبهة على أساس الـمصالح الـمشتركة الـمعيّنة فيما بينهن، فلا تفرض أمة من أمـم العام العربي وجهة نظرها على أمة أخرى. ويتم تأليف الـجبهة بتفاهم هذه الأمـم بواسطة مؤتـمر تـمثل فيه، لا بتفرد بعض الفئات في بعض هذه الأمـم بتعيين «قضية عربية» من عند أنفسهم لم ينظروا من ورائها إلى مصلحة سوى مصلحتهم الـخاصة.
لم تكن «القضيـة العربيـة» الظاهـرة الوحيـدة للاختلاطات السياسية والدينية في أمتنا في العهد السابق ظهور الـحزب القومي، بل نشأت ظاهرة أخرى هي ظاهرة «القضية اللبنانية».
يرجع أصل هذه القضية إلى الـحوادث الدينية الدموية الـمعروفة بـ «حركة الستين» وهي حوادث القتال بين الـمسيحيين والدروز، التي انتهت بتدخل الدول الكبرى ذات الـمصلحة في تفكيك السلطنة العثمانية وبسط نفوذها على هذه الأرجاء، ووضع نظام خاص لـجبل لبنان يحصل بـموجبه الأمان للمسيحيين الـمقيمين فيه الذين يؤلفون أكثريته. وقد عفا نظام لبنان اللبنانيين من واجبات الدفاع عن حقوقهم وعوّدهم الاتكال على الغير في إدارة شؤونهم. وبقاء هذا النظام نحو نصف قرن عوّد اللبنانيين الكسل وحبّب إليهم حالة الاستكانة، وجعل قسماً كبيراً منهم يرى فيها الـمطلب الأعلى للحياة الاجتماعية والسياسية وولّد عند الطائفة الـمسيحية الكبرى التي استفادت من نظام لبنان حب استبقاء الـحالة اللبنانية وإيجاد «قضية لبنانية» على أساسها.
على أساس هذه الرغبة في إبقاء الـحالة الراهنة وتوافق هذه الرغبة مع العوامل السياسية الأجنبية أنشىء لبنان الكبير ثم أُعلنت الـجمهورية اللبنانية، التي هي كيان سياسي يجد مبرراته في حوادث الاضطرابات الدينية في أواسط القرن الـماضي وفي حالة الـخنوع التي آل إليها اللبنانيون في ظل نظام لبنان السيِّىء الطالع.
هذه البلبلة الفكرية الروحية التي ترى مظاهرها في «القضية العربية» وفي «القضية اللبنانية» ساعدت على تـجزئة سورية وتفكيك وحدة حياتها ووحدة مصالـحها وتوليد صعوبات جمة في سبيل نشوء قضيتها القومية التي جاء بها الـحزب السوري القومي.
إنّ الذين تبلبلت أفكارهم وعقولهم يظنون أنّ قضية الأمة تـحقق عن غير طريق الأمة. فالذين يرون بلوغ الأرب في قضية إسلامية يخمنون أنّ ستر هذه القضية الدينية بستار من جامعة عربية يخفي دوافعها الباطنة عن الـمسيحيين في هذا الوطن، ويقود الـجميع في اتـجاه واحد فهم لا يفهمون نفسية الـجماعة وطبيعة العوامل الاجتماعية ويجهلون كل الـجهل أنه مهما تظاهر الـمسيحيون بأنهم مقتنعون بقضية «الـجامعة العربية» فلن يألوا جهداً في الاعتصام بقضية تناقض هذه الـجامعة الدينية. والذين يرون الفلاح في قضية مسيحية يتوهمون أنّ ستر هذه القضية الدينية بستار من شكل أرض يسمونه «استقلال لبنان» يخفي عن الـمسلمين دوافع هذه القضية الباطنة، فتجوز عليهم الـحيلة وينضوون تـحت لواء هذه القضية. وهم أيضاً لا يفهمون نفسية الـجماعة وطبيعة العوامل الاجتماعية ويجهلون كل الـجهل أنه مهما تظاهر الـمسلمون بأنهم مقتنعون بقضية «استقلال لبنان» أو الانعزال في لبنان، فلن يألوا جهداً في العمل لقضية تناقض هذا الاتـجاه الديني. والغباوة من الـجانبين تُري الفريقين أنه يـمكن التعويض عن الـحقائق الاجتماعية وحاجات الـجماعة بشيء قليل أو كثير من الـمنطق الكلامي.
على أساس هذه الغباوة نشأت الشركات السياسية لاستثمار النزعات الـمختلفة باسم «الوطنية». وقد عملت هذه الشركات طويلاً لغايات مبهمة من الوطنية بعيدة عن تنظيم الشعب وعقائـده، وعن إيجـاد الـمؤسسـات الصالـحة للعمـل القومي، وعن وضع قواعـد تربيـة اجتماعيـة سياسيـة جديـرة بتوليـد الـمعنويـات القويـة الكامنة في نفسية الأمة. فكان من وراء ذلك إقصاء الكفاءات السورية الـجديدة، الآخذة في الظهور، عن الاشتراك في عمل منظم يعطي النتائج الـمرغوبة واتـجاه الشركات الـمؤلفة نحو الاحتكار.
هذه هي الـحالة السياسية الـمشؤومة التي كان عليَّ أن أواجهها عند عودتي إلى الوطن، هذه هي الـحالة السياسية التي أخذ الـحزب السوري القومي يعالـجها على ضوء مبادئه وأهدافه. هذه هي الـحالة السياسية الـمشؤومة التي نتج عنها الانحطاط الـمعنوي في النفسية السورية الظاهر في أقوال كهذه: «نحن أمة ضعيفة لا قبل لنا بأمر كبير كالاستقلال. بلادنا كانت مـمراً للفاتـحين وهي الـجسر بين الغرب والشرق وستظل كذلك. ماذا يستطيع أربعة ملايين سوري أن يفعلوا؟ الخ.» ومن هذه الأقوال، التي كنا نسمعها ولا نسمع غيرها قبل نشوء الـحزب السوري القومي، يظهر لكم جلياً مبلغ انحطاط الـمعنويات الذي بلغت إليه الأمة السورية على عهد الشركات السياسية. وهي هذه الأقوال، ما يتذرع به كلا الفريقين: القائل بـ «القضية العربية» والقائل بـ «القضية اللبنانية» أولئك يتذرعون به ليبرروا إنكارهم حق أمتهم بالـحياة والعمل للجامعة الإسلامية - العربية، وهؤلاء يتذرعون به ليبرروا تـمسكهم بانعزال لبنان ووضعه تـحت حماية دولة أجنبية مسيحية. وكلا الفريقين على ضلال مبين.
هذه هي الظروف السياسية الـمتولدة من الـحوادث التاريخية القاسية، التي مرت بأمتنا في عصورها الـمتأخرة وجاء الـحزب السوري القومي ليبطل مفعولها ويزيل أثرها.
أما الظـروف الـروحيـة النفسـية الـمتولدة من هذه الـحوادث ومن الظروف السياسية الاقتصادية الـمتأتية عنها فهي ظروف انحطاط في الـمناقب عز نظيره. فإن فقد الثقة بالنفس وبقوى الأمة وإمكانياتها السياسية والاقتصادية، والاستسلام للخنوع، أنشأ طائفة من الـمأجورين للإرادات الأجنبية القريبة والبعيدة يغذون الأفكار بسموم فقدان الثقة بـمستقبل الأمة والتسليم للأعمال الـخارجية والـحالة الراهنة. فإذا النفسية العامة في الأمة نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وترجرج في الـمناقب والأخلاق. ومن صفات هذه النفسية العامة الـخداع والكذب والرياء والهزؤ والسخرية والاحتيال والنميمـة والوشايـة والـخيانة وبلوغ الأغراض الأنانية، ولو كان عن طريق الضرر بالقريب وعضو الـمجتمع.
هذه الـحالة كانت أكبر نكبة أصيبت بها الأمة، والتفاعل بينها وبين الـحالة السياسية كان وخيم العواقب معدماً كل أمل بتوليد نهضة قومية صحيحة وكل أمل بتحقيق القضية القومية. فاليأس ساعد الفساد الأخلاقي مساعدة عظمى والفساد الأخلاقي قوّى اليأس ووطد النفوس عليه.
هذه هي الظروف السياسية والروحية التي وجدتُني محاطاً بها عندما قررت وجوب إنقاذ الأمة بإنشاء الـحزب السوري القومي، والسعي لاكتشاف العناصر السليمة الضالة في فوضى هذه الظروف وتنظيمها في الـحزب.
من البديهي أنّ الـحركة للتحرر من سيطرة تركية، التي عرفت فيما بعد بـ «القضية العربية« لم تكن القضية القومية بل القضية السياسية الأولى الناشئة من الاختلاجات القومية الأولى. فالقضية القومية لا تنحصر في فكرة التحرر السياسي من ربقة دولة مسيطرة بل القضية القومية تكون في إدراك شخصية الأمة وحاجاتها وإيجاد الـمبادىء الـموحدة صفوفها واتـجاهها، ووضع أسس كيانها الثابت الـمجهز بجهاز البقاء والتمييز بين حقـوقها وحقـوق الـجماعـات الأخـرى. ولـمّا كانت سورية مجتمعاً واحداً قائماً بذاته في القطر السوري تتفاعل ضمنه حياة اجتماعية اقتصادية واحدة، كان همّي الأول تعيين قضية هذا الـمجتمع الذي هو مجتمعي، والقضاء على الاختلاطات السياسية الدينية التي بلبلت عقائده وأضاعت شخصيته مدة من الزمن، وتأسيس قضيته القومية الـجامعة مصالح السوريين جميعهم وحقوقهم الـمولدة إرادة الأمة السورية أن تدرك مصالـحها وحقوقها وأن تنمّي وتوسع هذه الـمصالح والـحقوق. وقد تـمكنت من تكوين قضية الأمة السورية تكويناً تاماً في الـمبادىء التي أعلنتها ودعوت الشعب إليها وتأسس عليها الـحزب السوري القومي.
كان تأسيس الـحزب السوري القومي ضربة قاضية على البلبلة الفكرية الروحية، وبدء اتـجاه الأمة نحو قضيتها التي هي قضية حياتها ومصيرها ومطالبها العليا. فالقضية السورية القومية وضعت حداً للفوضى السياسية والاجتماعية فلم تعد الـحركة القومية مجرد انتقاض على الإرادات الأجنبية والسيطرة الأجنبية أو حركة جماعة مسيحية أو جماعة إسلامية، بل حركة أمة أدركت وحدة مصالـحها وحقيقة حياتها فأرادت هذه الـحقيقة وعملت لهذه الـحقيقة. هذا هو عمل الـحزب السوري القومي.
بهذه الـحقيقة أردت معالـجة الـحالة الفكرية السياسية الـمضطربة الـحائرة بين إبهام «القضية العربية» والاختلاطات الـمشتملة عليها، وعماوة «القضية اللبنانية» والاشتـراكـات الداخلة فيها. وبهذه الـحقيقة انتصرت على اليأس وظلمة الفكر وتشوش الشعور.
ما أعظم الفرق بين الأمة بعد إعلان هذه الـحقيقة والأمة قبل إعلانها. ففي هذه الـحقيقة نرى حقيقتنا نحن - وجودنا ومصالـحنا، شخصيتنا وإرادتنا ومطالبنا العليا. في هذه الـحقيقة ندرك قوّتنا ومؤهلاتنا ومقدرتنا، وعلى هذه الـحقيقة نسيّر خططنا لفلاح أمتنا. على ضوء هذه الـحقيقة أصبحنا نرى جيداً مقاصدنا وطريقنا.
بهذه الـحقيقـة صرنا ندرك أنّ الإرادة الواحدة الدائمة لا تكون إلا وليدة الـمصلحة الواحدة الدائمة. وإنّ الـمسائل السياسية لا يـمكن أن تصبح قضايا عقائدية مهما اجتهد العاملون لها في إيجاد تعليلات كلامية عقائدية لها. فالـمسألة اللبنانية هي مسألة سياسية تتعلق بظروف بعض الـجماعات الدينية لا يـمكن أن تصير قضية عقائدية لأنها مسألة ظرفية هي من آثار زمن العصبيات الدينية. أما محاولة الرجعيين والنفعيين استغلال اختلاطات الـمسألة السياسية التي سمِّيت «القضية العربية» وتـحويلها إلى قضية عقائدية فهي نوع من محاولة العبث، لأنه إذا كان هنالك بعض الـمصالح الظرفية يشترك فيها عدد من أمـم العالم العربي، فالإرادة الناشئة عنها هي إرادة ظرفية أيضاً، ليست ثابتة ولا دائمة، لأنها ليست وليدة وحدة حياة اجتماعية ووحدة مصالـحها الدائمة. فمصلحة التعاون على تـحرير الأقطار العربية ليست مصلحة قومية لأنها تنتهي بحصول الـحرية وتزول لتترك الـمجال للمصالح القومية الـخاصة الدائمة الناشئة عن وحدة حياة دائمة التي منها تتولد إرادات قومية خاصة دائمة، والتي تتعين بتعيين الـمجتمع وتتميز بتميّزه، كما تتميز بـمجموعها مصالح الزرّاع والصنّاع والتجار وأهل الفنون والأدب السوريين، وحقوقهم ومطالبهم العليا عن مصالح رعاة الإبل والغزاة العرب وحقوقهم ومثلهم العليا في مجموعها، أو عن مصالح الزرّاع والصنّاع والتجار وأهل الفنون والأدب الـمصريين وحقوقهم ومطالبهم العليا في مجموعها.
إنّ اشتراك أمـم العالم العربي في طلب الـحرية والاستقلال لا يولِّد وحدة قومية، بل يولِّد وحدة اتـجاه سياسي تظل قائمة ما دام هنالك حاجة إليها. فإذا تـمَّ التحرر السياسي عادت كل أمة من هذه الأمـم إلى حاجاتها ومصالـحها الناشئة عن وحدة حياتها. ونحن لا نريد أن نكون قصيري النظر إلى حد أن تختلط علينا الـمصالح القومية والـحاجات السياسية.
نحن لنا وحدة حياتنا في هذا الوطن الذي هو وطننا وتراثنا، ولنا مصالـحنا التي لا نخلط بينها وبين مصالح الوحدات الأخرى، ولنا إرادتنا التي لا نقبل إرادة غيرها.
إنّ الذين يقولون عنا: إننا نريد غاية ما يريدونه هم وسيلة، هم مصيبون جداً في هذا القول. ولكن هذه الإصابة تزيد في قوّتنا بدلاً من أن تضعفنا، كما يتوهمون، لأنها تدل على أننا نرى مصلحة أمتنا وحقها في السيادة على نفسها ووطنها غاية جهادنا، وعلى أنهم يرون مصلحة أمتنا وحقها في الـحياة والسيادة وسيلة لبلوغ مصالح أخرى غير هذه الـمصلحة. إنهم يرون مصالح السوريين وسيلة يخضعونها لـمصالح أمـم أو دول أخرى يحلمون بتشييد إمبراطورية منها. أما نحن فنقول إنّ مصالح شعبنا هي غايتنا. فنحن ننهض في سبيل مصالـحنا وحقنا في الـحياة والسيادة. ونقول للأمـم الأخرى أن تنهض هي بدورها في سبيل مصالـحها وحقها في الـحياة، فإذا فعلت فإننا ندعوها لتأليف جبهة تعاونية لبلوغ الأهداف لا تقضي على شخصيتنا ولا تـجرّدنا من حقوقنا ومصالـحنا القومية.
وإنّ تأسيس قضيتنا القومية في مبادىء الـحزب السوري القومي، التي كنت حريصاً جداً على أن تكون معبّرة عن حاجاتنا ومصالـحنا وإرادتنا، أنقذنا من حالة اليأس وبدّل من حالة التخبط بحالة الـجلاء والعمل الـجدي الـمنظم في الـحزب القومي. ونحن الآن جادون في هذا الطور العملي لوضع الأمة السورية كلها على طريق الفلاح.
هذه الـحالة الـجديدة التي أوجدها الـحزب السوري القومي جعلتنا ندرك جيداً الفرق بين مبدأ كره الأجنبي الغامض ومبدأ الـحياة القومية ومصالح الأمة والغرض القومي الـجليّ.
ليست مبادئكم، أيها القوميون، خطة سياسية يـمكن أن يبحث أمر الأخذ بها أو تركها حسبما يبدو للناس من إمكانية نـجاحها أو حبوطها. إنها مبادىء قضيتكم التي تـمثّل شخصيتكم ومصالـحكم. إنها مبادىء نهضتكم التي لا شخصية ولا كرامة لكم إلا بنجاحها. إنّ قضية شخصيتنا ومصالـحنا لا يـمكن أن تكون خطة أو وسيلة، فهي الأساس الذي نبني عليه كل منشآتنا والـمرجع لكل خططنا.
تكفلت القضية القومية بإعادة الثقة والـمعنويات الإنشائية، التي امتازت بها أمتنا وقادت بها البشرية منذ بدء الـحضارات الأولى إلى تأسيس الـمدنية الـحديثة الـمنتجة من التفاعل السوري - الإغريقي. وهذا القصد هو الذي قصدته من وضع الـمبدأ الثاني من مبادىء الـحزب السوري القومي القائل: «القضية السورية قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى». وقد عنيت بهذا الـمبدأ أنّ قضية الأمة السورية قضية يجيء تـحقيقها من الأمة السورية ويكون بإرادة الأمة السورية وفاقاً لـمصالحها، لا بإرادة أمة أو أمـم أخرى وفاقاً لـمصلحة تلك الأمة أو الأمـم. من هذا الـمبدأ تولدت فينا قوة الثقة بالنفس والاعتماد على النفس في تـحقيق مطالبنا. ومن هذا الـمبدأ خرج إيـماننا الراسخ بأن سورية تقدر أن تـحيا تـحت كل الظروف القريبة والبعيدة، مهما يكن من أمر هذه الظروف. إنّ هنالك فرقاً عظيماً بين الـمعنويات الـمتولدة من اضطلاعنا بـمسؤوليات مصالـحنا وحقوقنا وبين وضع مسؤوليات هذه الـمصالح والـحقوق على الغير أو على اشتراكات واختلاطات تضيع فيها الـمسؤوليات والـمصالح والـحقوق، كما كان الـحال في قضية «استقلال لبنان» وفي «القضية العربية».
[1]() صدر في كراس عام 1938.